يعتبر الطب من أكثر المجالات العلمية تطويرا وتحديثا سواء من الناحية التشخيصية أو العلاجية، بغية الوصول إلى الشفاء بأقل تكلفة وجهد على المريض وبأقل نسبة حدوث للمضاعفات التي تعقب الكثير من الوسائل العلاجية، وبخاصة الجراحية منها.
ومن أبرز مجالات هذا التطوير والتحديث ما أحدثته جراحة المنظار من ثورة ونقلة هائلة في مفهوم العمليات الجراحية، فبدلا من إجراء العملية من خلال فتحة طولية بجدار الصدر أو البطن يتراوح طولها ما بين 5 و30سم في المتوسط، يتم الآن إجراء الجراحة بواسطة المنظار بفتحات معدودة يتم من خلالها إجراء مختلف العمليات الجراحية في تجويف الصدر والبطن، أو تعديل في أي عضو من الأعضاء الداخلية في تجاويف الجسم المختلفة، مما جعلها تتفوق على العمل الجراحي الاعتيادي، وخصوصا في تقليل آلام ما بعد العملية، أو حدوث التهابات ما بعد العملية، والعودة إلى الحياة الطبيعية في أقصر مدة زمنية وتقليل احتمالات حدوث تشوهات وندبات ما بعد العمليات المفتوحة.
تاريخ جراحة المناظير
جراحة المناظير ليست وليدة الساعة، فقد فكر فيها ووضع أسسها علماء مسلمون وغيرهم من العلماء وتواصل استكشاف أسرارها واستخداماتها على مر العصور إلى أن وصلت إلى الوضع الذي نفخر باستخدامه في عمليات هذه الأيام.
الدكتور عدنان صباحي، استشاري جراحة المناظير ورئيس مركز الأمير سلطان لجراحة المناظير المتطورة، يتحدث إلى «صحتك» حول قصة اكتشاف لغز المناظير ومراحل تطورها، فيقول إن الجراحة التنظيرية علم قائم على أساسيات علم الضوء والبصريات التي قام بوضعها العالم المسلم الحسن بن الهيثم المولود عام 965 في البصرة، رائد علم الضوء والبصريات في القرن الحادي عشر.
وأينما ذُكرت الجراحة ذكر العالم المسلم أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي، المولود في مدينة الزهراء بالأندلس عام 927، الذي أصبح بفضل مجهوداته الواضع الأول لعلم التنظير الجراحي وذلك باختراعه واستخدامه المحاقن والمبازل (Trocar) الجراحية التي عليها يقوم هذا العلم.
وبالفعل قام بعمل تفتيت لحصوة المثانة (Lithotrite) بما يشبه المنظار في وقتنا الحالي، وهو أول مخترع ومستخدم لمنظار المهبل (Vaginal speculum).
ويعتبر كتابه «التصريف لمن عجز عن التأليف» الذي قام بترجمته إلى اللاتينية العالم الإيطالي جيراردو (Gherardo da Cremona) تحت اسم «ALTASRIF» الذي يعتبر موسوعة طبية متكاملة لمؤسسي علم الجراحة في أوروبا، وذلك باعترافهم.
هذا بالإضافة للكثير من اختراعاته لأدوات الجراحة كالمشرط والمقص الجراحي ووضعه أسس وقوانين الجراحة التي من أهمها علم ربط الأوعية لمنع نزفها واختراعه خيوط الجراحة وإيقاف النزف بالتخثير، هي من أهم إنجازاته في الجراحة.
ويذكر التاريخ العالم هيبوقراط الذي استخدم منظارا (speculum) لفحص البواسير، إلا أنه يبقى فحصا إكلينيكيا من دون جراحة ومن دون استخدام الضوء.
جاءت الطفرة التالية في عام 1585م حين قام الطبيب الإيطالي أرانسي (Giulio Cesare Aranzi) بدراسة ونقل وتطوير أعمال الزهرواي مستخدما نظريات ابن الهيثم في علم الضوء، وخصوصا لتطوير منظار الزهراوي مستخدما انعكاسات ضوء الشمس لأول مرة كمصدر إضاءة لفحص تجويف الأنف.
بدايات منظار المستقيم
بدأ العصر الحديث للتنظير على يد الطبيب الألماني فيلب بوتسيني (Philipp Bozzini) (1773 - 1809) الذي قام بمدينة فرانكفورت في عام 1806 بتصنيع منظار لتنظير المستقيم والجزء الأخير من الأمعاء وذلك باستخدام تقنية سماها «Lichtleiter»، وهي تقنية استخدام الكحول والشمع كمصدر للإضاءة والموثقة بمعهد تاريخ الطب في جامعة فيينا، الذي استخدم بداية على الجثث.
من الجدير بالذكر أن منظار الطبيب الألماني فيلب بوتسيني سُرق من متحف الطب بجامعة فيينا بالنمسا بعد الحرب العالمية الثانية ليظهر أنه موجود لدى الكلية الأميركية للجراحيين! وأعيد في عام 2002 إلى متحف الطب بجامعة فيينا.
وبعدها قام الجراح الفرنسي أنتوني ديزورمو (Antoine J. Desormeaux) في عام 1850 بتجريبه على المرضى.
بدايات التنظير التشخيصي
لم تمض عدة سنوات حتى جاء البروفسور الألماني ماكسيميليان نيتسه (1848 - 1906) ليضع في عام 1879 الأساس الحقيقي لعلم التنظير الحديث وذلك باختراعه واستخدامه بنجاح لأول منظار، مستخدما الضوء الكهربائي (مصباح أديسون) وكان للجهاز البولي.
وقام بتقديمه لأول مرة مع زميله النمساوي جوزيف لايتر في عام 1879 أمام اتحاد الأطباء الألمان في ذلك العام. ليفتح بذلك آفاقا جديدة لتشخيص وعلاج أمراض الجهاز البولي والأساس الحديث لهذا العلم، ليس ذلك فحسب بل أساس علم التنظير التشخيصي.
وفي 23 سبتمبر عام 1901 دخل الطبيب الألماني جورج كيلنغ (George Kelling) والمولود في مدينة درسدن تاريخ التنظير الجراحي من أوسع أبوابه، حيث قام بتطوير منظار مواطنه الألماني نيتسه لاستخدامه لأول مرة في تاريخ البشرية لتنظير التجويف البطني للحيوان، وواضعا لأول مرة في التاريخ مصطلح «منظار البطن» (laparoscopy) الذي قام بتقديم عمله في عام 1901 أمام اتحاد الأطباء الألمان الذي اعتمد في استخدامه على الإنسان فيما بعد.
إن عمل جورج كيلنغ لم يكن فقط مهما كونه أول من قام بتنظير جوف البطن، بل إنه يعتبر أيضا أول من اخترع أدوات التنظير البطني من مرشحات للهواء وأنابيب الضخ والقياس والمبازل بشكلها الحديث التي تستخدم إلى يومنا هذا.
وكان من أشهر تلامذته السويدي هانز كرستيان ياكوبس (Hans Christian Jacobaeus) الذي قام بعمل أول منظار للتجويف البطني والصدري للإنسان في عام 1911 معتمدا على تقنية وأدوات أستاذه كيلنغ. وعطلت الحرب العالمية التقدم العلمي قليلا ثم بدأت القفزات.
خزعة الكبد بالمنظار
وكانت القفزة الأولى في استخدام التنظير للتدخل الجراحي كانت على يد الطبيب الألماني كالك (Kalk) في عام 1942 الذي قام بعمل أول خزعة للكبد بالمنظار ولحقها بعمل 2000 حالة بنجاح، فاتحا أبوابا ومجالات جديدة في هذا العلم، خصوصا للشركات الألمانية المصنعة لأدوات التنظير الذي يفسر تربعها على عرش هذه الصناعات حتى هذه الأيام، حيث كانت البداية والسبق للألمان في هذا المجال.
ومما يجدر ذكره أن الإبرة المستخدمة حتى يومنا هذا لنفخ التجويف البطن من دون مخاطر في بداية أي عمل جراحي بالمنظار قام باختراعها الجراح الألماني جوتسه (GOETZE) في عام 1918، التي طورها تلميذه المجري الدكتور فيرس (VERRES) في عام 1938 وقد سميت باسمه.
وظهرت بدايات استخدام العدسات والألياف الضوئية، إذ أسهم البروفسور هارولد هوبكنز (Harold Hopkins) باكتشافه نظام العدسات والألياف الضوئية عام 1953 في نقلة نوعية في صناعة التنظير.
منظار الجراحات النسائية
القفزة الثانية باستخدام التنظير للتدخل الجراحي كان السبق فيها لجراحي النساء والولادة الألمان، حيث كانوا أغلب من استخدم التنظير، ومن أشهرهم الجراح الألماني الشهير كورت زم (Kurt Semm) رئيس قسم النساء والولادة في جامعة كيل الألمانية، الذي يعود له السبق التاريخي بأجراء أغلب عمليات النساء والولادة التنظيرية، ليس ذلك فحسب بل تعدى ذلك بأجراء أول عملية استئصال للزائدة الدودية بالمنظار في عام 1980، وقام بتعليم مؤسسي علم النساء والولادة في أميركا مثل الطبيب الأميركي جون موريسون وهاري رايش.
الكاميرا في التنظير
كان عام 1982 هو بداية استخدام كاميرات الفيديو، إذ تم دمج هذه التكنولوجيا مع جراحة التنظير ليتمكن الجراح من متابعة العملية على التلفزيون بدلا من النظر من خلال عدسة المنظار القديم، معطيا الجراح مزيدا من الحرية وإمكانيات أفضل. وقام البروفسور الألماني إيرش موها (Erich Mühe) رئيس قسم الجراحة في جامعة بوبلنجن الألمانية بإجراء أول عملية استئصال مرارة بالمنظار في العالم عام 1985.
اشتهر طبيب النساء والولادة الفرنسي فيليب موري (Phillipe Mouret) عام 1987 كأول من أجرى عملية بالمنظار المصور في ليون بفرنسا مسجلة.
ثم ظهرت بدايات النقل الحي (المباشر) للعمليات، إذ كان عام 1994 بداية دخول الذراع الآلية للتحكم في المنظار هذا المجال وبعدها بدأ الانتشار على شبكة الإنترنت لعموم الناس، حيث كان أول نقل حي مباشر لعملية تنظير عام 1996.
رموز عالمية في علم التنظير الجراحي الحديث
من بين الرموز الأخرى في التنظير الجراحي في العالم:
- البروفسور الإنجليزي مونسون (Monson)، رئيس قسم الجراحة بجامعة هول في مدينة هامبرسيد بالمملكة المتحدة، الذي قام بأجراء أول عمليات استئصال أجزاء من الأمعاء بالمنظار عام 1991، ما زالت أبحاثه الرائعة متواصلة لأيامنا هذه.
- البروفسور الألماني هيرمان رايشنشبورنر (Hermann Reichenspurner) رئيس قسم جراحة القلب في جامعة ميونيخ، الذي أحدث ثورة عالمية بأجرائه أول عملية تبديل صمامات لقلب إنسان نابض بالمنظار وباستخدام تقنية التصوير الثلاثي الأبعاد.
ويعود له السبق بأجراء ووضع أسس جميع عمليات القلب التنظيرية، وكذلك هو أول من أجرى هذه العمليات بمساعدة الروبوت الجراحي، وكان ذلك في عام 1998، وساعد على دخول وتعليم هذه الطريقة إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث لم يسمح باستخدام هذه التقنية هناك إلا في أواخر عام 2000.
- يذكر أيضا أنه أستاذ لكل من الجراح أوتس كابرت (U. Kappert)، والجراح روموئلد شيشون (R. Cichon) الجراحين بمعهد درسدن وليبزش للقلب بألمانيا وهما أكثر من قاما بأجراء عمليات القلب التنظيرية بما فيها تبديل الصمامات الكامل بالمنظار بنجاح على مستوى العالم وأكثر من قام ويقوم بإجرائها بمساعدة الروبوت الجراحي إلى هذا الوقت.
- البروفسور الألماني إنغولف تورك (Ingolf A. Türk) رئيس قسم جراحة المسالك البولية في جامعة برلين، قام بأول عملية استئصال كامل للمثانة محافظا على المجرى الطبيعي للبول باستخدام المنظار في أول عام 2000 التي أذهلت أهل تخصصه مما حدا بجامعة فيرجينيا ومركز سرطان البروستاتا بأميركا بطلبه كبروفسور زائر للاستفادة منه ومن خبرته خاصة بمجال الجراحة التنظيرية باستخدام الروبوتات الجراحية.