الاقتصاد القرباطي في زمن العولمة
أسنان رخيصة ودعم تقني لأطباء الأسنان
" شانغهاي " صناعة الأسنان الذهبية في العالم ، أو بستان الجانكية،التي يروي تاريخ حلب أنها كانت قبل مئات السنين منطقة تمركز للقرباط، وأبناء عمومتهم من " النور" على مشارف حلب خارج الأسوار ،
في تلك المنطقة تصنع الأسنان الذهبية الصفراء التي ستلمع لاحقاً في ثغور بدويات الحماد والشامية ، ورجال صعيد مصر، وطوارق الصحراء الكبرى، وسمراوات أفريقيا جنوب الصحراء .
لكنها ورغم وقوعها اليوم في منطقة غير بعيدة عن مركز مدينة حلب، إلا أن الانتهاء من مشاريع مؤسسة المياه جعل منفذها القريب إلى طريق الدائري الشمالي مقابل حي " سليمان الحلبي" مغلقاً، ولهذا يضطر الأهالي لقطع مسافة طويلة للدخول للحي من ناحية الشيخ خضر، أو بستان الباشا ، المنطقة استقبلت مهاجرين من شتى أنحاء حلب، وخاصة من ريف جرابلس، وما يزال اسم الجانكية مرتبط بالقرباط ، وما تغير فقط هو نزوع بعض الموسرين منهم لبناء المساكن الحديثة ، وترك السكن في الخيم ، ويمكن تقسيم القرباط طبقياً تبعاً لنوع المسكن، مع أن الجميع تماماً لسنوات قليلة خلت يكادوا يمتهنون تلك المهنة التاريخية، والأثيرة لديهم " تركيب أسنان الذهب " والتي حملوها من سورية إلى بوادي نجد، وقفار الربع الخالي، ونجوع مصر، وواحات الصحراء الكبرى، وصولاً حتى تيزي أوزو في أقصى الجزائر إلى بلاد الشنقيط وحتى مالي والسنغال وبلدان خط الاستواء .
لا يصدق الناس هنا أن بين القرباط فقراء بل يعتقدون أن خلف كل خيمة هنالك بيت فخم في جبل بدرو في ظاهر حلب على طريق الشيخ نجار ، تصطف أمامه سيارة هونداي ، وما سكنهم في الخيم إلا تمويهاً أو تشبثاً بالأرض ليستملكوها !
بيوت فخمة وبيوت صفيح
خيام فقراء القرباط منارة بضعف شديد، لعل مرده كونَ كل خمسة منازل لهؤلاء، قد اشتركت بخط كهربائي من سماكة 2 مم، من مصدر واحد، لا يتحمل تشغيل أكثر من نيون، أو لمبة ، مع تلفزيون و براد إن وجد،و حسب شروط الخدمة التي يفرضها الجار المزود للكهرباء، إن لم يكن السبب هو كره النار والإضاءة، الذي ينسبه الناس للقرباط حباً بمعشوقهم "جساس" قاتل "كليب" في الملحمة العربية الشهيرة "الزير سالم".
ليس من الضروري أن تقرأ رواية " دفاتر القرباط " لخالد خليفة لتكون خلفية عن المشهد القرباطي في سورية ، فالتواصل الحي إذا ما استطعت أن تحوز ثقتهم يغني عن دفاتر القرباط ، مضاربهم أقيمت بالقرب من مكب " محلي " للقمامة الأمر الذي يجعل الرائحة داخل الخيام القريبة منه فظيعة ، وهي تقريباً ذات تصميم واحد، خيمة لا فصل فيها بين غرفة النوم، وغرفة الاستقبال، وغرفة المائدة، والمطبخ، والحمامات، حيث تجري هذه الأنشطة مجتمعةً في نفس المكان.
بعد الوحدة العربية القرباط على طريق الوحدة الأفريقية
الصحن اللاقط الذي أكله الصدأ بالقرب من خيمة " رشيد " المولع بالقنوات الفضائية، يدل على دخول هذه التقنية حياة القرباط منذ زمن ليس بقريب، رشيد ابتكر قاعدة للصحن تتلاءم مع السكن في العراء فقد عمد إلى تركيبه فوق برميل كبير حقنه بخليط من التراب والماء مكنه من الثبات وتحمل الرياح، ورشيد يعمل في مهنة القرباط الأثيرة، والوحيدة صناعة وتركيب الأسنان الذهبية، وهو يعمل مع ابن عمه "جمال" الذي سُمي بهذا الاسم تيمناً بجمال عبد الناصر، والذي حمل حقيبته ذات يوم في الثمانينيات، ومضى بها متنقلاً بين بوادي نجد، وصعيد مصر، وواحات ليبيا ، قاطعاً الصحراء الكبرى عبر تيزي أوزو، إلى بلاد الشنقيط و صولاً إلى السنغال ،ومالي، وغينيا بيساو، هو ومجموعة من أشقائه ،وأبناء عمومته ،
تركيب ثلاثة أسنان لوزير خارجية غينيا بيساو
في كوناكري ركب جمال ثلاثة أسنان ذهبية لوزير خارجية غينيا بيساو في العام 1991، " كانت علاقتي بالوزير واسمه علي ممتازة ، كنت ادخل إلى مكتبه مباشرة دون أن أمر على السكرتيرة هكذا هو أوصاها، وكان يدعونا إلى بيته على العشاء كل فترة "
و جمال هو ابن " جمعة الشواخ " شيخ عشيرة الملاحمة القرباطية التي تتصل بقبيلة الجبور العربية ، وهم الملاحمة الأصليين وليس ملاحمة قرية جبرين العرب كما قال!!
"المهنة ضعفت و قرباط كثيرين "استقالوا" وتوظفوا بالدولة ،أو عملوا في أشغال أخرى ،مثل صناعة البطاريات ، ابن عمي عبد الرزاق افتتح معملاً لصناعة البطاريات، وبدأ بسحب الشباب لتعلم هذه المهنة "
ويتابع جمال الذي تكنى بأبي خالد كعبد الناصر " أطباء مشهورون في حلب ، و مخبريو صناعة أسنان يشترون أسناناً ومواد من عندنا ، ويوصون على طلبيات خاصة من عندي " ثم يعدد بعض هؤلاء ...
أصولهم هندية ... من قبيلة الجبور العربية .. المتفرعة من بني تغلب !
لا يجد "جمال" تناقضاً بين كونهم قدموا من سلسلة جبال "قورباط" في شمال الهند، وبين نسبتهم إلى قبيلة الجبور العربية ، لا بل يرفض نسبة ملاحمة جبرين وهم عرب أقحاح إلى الجبور فهم سرقوا اسم العشيرة منهم ، يتدخل جميل " ولو يا أستاذ نحن قوم "جساس" ، و الجبور من بني تغلب وهذا دليل على صحة كلامنا "
لكن القرباط منفتحون على الجميع رغم النظرة المسبقة التي تشوبها العنصرية تجاههم ، فلباقتهم ونظافة بيوتهم لا توحي بأي اختلاف عن البيئة المحيطة بهم، يقول أحدهم " نحن نحب أن نندمج بالناس، ولكن هم يرفضوننا، ابن عمي جميل تزوج من إمراة إفريقية زنجية ، وعبد الرزاق الذي تراه هو ابن لهذا الزواج ، من السهل أن نتزوج إفريقيات ولكن من الصعب أن نتزوج فتيات سوريات من أبناء وطننا، ونحن شعب جميل، رجالنا وسيمون ونساؤنا جميلات أكثر ، ورغم ذلك فكلمة قرباطي لا تزال تثير في الناس الرفض "
سميرة فتاة صغيرة جميلة جداً ، تعطيها " الهندية " وهي النقطة الحمراء على الجبين جاذبية أكثر ، جميلات القرباط يشبهن بطلات الأفلام الهندية! ومنهن زوجة رشيد .
صناعة الأسنان الذهبية لا ذهب ولاهم يحزنون !
ما تزال الأسنان التي يركبها القرباط تحمل اسم الذهب والذهب منها براء " غرام الذهب ب900 ليرة أقلية من الناس التي تطلب ذهب حقيقي ، وهم من شيوخ العشائر والبدو الأثرياء ، نحن اليوم نستخدم أسنان من البلاتينيوم "
أقاطعه ... بلاتينيوم هذا المعدن أثمن من الذهب ؟؟؟
يوضح جمال حقيقة هذا البلاتينيوم، هو "نيكل" لكن الناس تطلق عليه اسم بلاتينيوم وهو نوعين أصفر وأبيض، ورغم أن سعرهما واحد إلا أن القرباط يضعون سعرين مختلفين لكل نوع ، ويبيعه جمال لجماعة التركيب بعشر ليرات فقط ، وهناك من يقوم بشحنه لجماعتنا في خارج القطر ، نحن يحق لنا السفر إلى أي مكان في العالم ،
قبيل تطور صناعة الأسنان ، احتكر القرباط سر هذه الأسنان ولسنين طويلة ركبوا أسناناً من "النيكل" تكلفهم ليرة على أنها ذهبية وتقاضوا لقاءها مئات الليرات .
سجّل أنا قرباطي ... قرباط ٌ ولا نخجلْ
ولاشيء يزعج القرباطي أكثر من مخاطبته كـ " نوري " والموضوع يتعلق بالبنية المحافظة نسبياً في الأسرة القرباطية ، رغم عدم وجود الحجاب بالمفهوم الشرعي ، يقول حبيب الذي يتردد في موضوع التقاط صورة له مع زوجته غير المحجبة
" نحن قرباط ،ولسنا من " النّور"، ونعتز بأننا قرباط نحن نعمل بمهنة شريفة منذ مئات السنين تركيب، ومعالجة الأسنان ،ونحن مسلمون نتبع المذهب الحنفي ، نصوم رمضان رغم أننا لا نصلي " كثيراً ما يأتي الناس إلى بستان الجانكية طلباً لطبالين و عازفين و "حجيّات " فتحدث مشاكل بيننا وبينهم، نساؤنا لا يخرجن من البيوت إلا لغرض التسوق ، و شراء الحاجيات، وزيارة الأقارب ، و من المعيب في عاداتنا أن تعود النساء بعد منتصف الليل كنساء النور ،
وبصناعة و تركيب الأسنان الذهبية مهنة الآباء والأجداد ";
أرفع شخصياتهم قاض
و ياسر العظمة شخصية مكروهة جداً لديهم
"عبد القادر" الذي كان متحفظاً ، يتدخل في الحديث للرد على سؤالي عن أهم شخصية عند قرباط حلب و يقول " نعم هنالك قاض من أقربائنا درس في حلب ، ولكنه لا يتعرف علينا ، ويتنكر لنا ، عندما عمل في أحد محاكم اللاذقية ذهبت أمه لزيارته فلم يستقبلها، رغم زوجته مثلنا وليست حلبية لنقول أنه " يستعِرّ من أهله أمام زوجته "
عبد القادر غاضب جداً من العنصرية الشائعة في الإعلام السوري ضد القرباط والنور، و بالأخص في المسلسلات السورية، ويوجه كلاماً غاضباً إلى الفنان ياسر العظمة " ياسر العظمة فنان مضحك جداً ولا شك، ولكن هذا لا يبرر له أن يهاجمنا، ويسخر منا، ويهين كرامتنا، وإذا أراد وصف إنسان سيء ، و وسخ يقول عنه "قرباطي" أو "نوري" ،وغير ياسر العظمة ، هنالك وفاء موصللي أيضاً تتهجم علينا، ألسنا مواطنين مثلهم " يؤيده الجميع، ويضيف آخر " على ياسر العظمة أن يكف عن الإساءة لنا "
عبد الرزاق يهاجم الفنان الذي ينطق بمفردة عنصرية ولا يعنيه السيناريست الذي يكتب،أو الرقيب الذي يمرر هكذا كلام أو أفكار مسبقة فيها عنصرية ، وهما المسوؤلان الحقيقيان .
باسل ديوب – سيريانيوز - حلب