ظل الباحثون، ولأكثر من قرن، يدققون في ما إذا كانت عوامل العدوى تلعب دورها في التحفيز على ظهور بعض أنواع الأمراض العقلية، خاصة مرض انفصام الشخصية (الشيزوفرينيا).
وقد استندت غالبية تلك الأبحاث إلى دراسات برهنت فقط على وجود صلة بين بعض أنواع العدوى وبين حدوث الاضطرابات العقلية، لكنها لم تبرهن على ترابط السبب والنتيجة.
إلا أنه ومنذ عام 2000، أظهرت نتائج الباحثين جملة من الدلائل المستندة إلى الملاحظة، وكذلك إلى الدلائل البيولوجية، التي تفترض أن استجابات جهاز المناعة الدفاعية في الجسم، وليست العدوى نفسها، ربما تقود إلى حدوث أضرار في الدماغ.
ثم وإضافة إلى ذلك، فقد ينشّط التوتر المزمن، ردود فعل مناعية ضارة، حتى عند انتفاء العدوى.
وعلى الرغم من أن الأبحاث لا تزال أولية، فإن هذه النتائج تفترض وضع منطلقات جديدة للعلاج.
تأثيرات على الدماغ
إن وظيفة جهاز المناعة تتمثل جزئيا في حشده لخلايا التهابية تتعرف على الفيروسات، والبكتيريا، والعوامل الأخرى المسببة للمرض، وتدميرها.
إلا أن هذه القوة النارية الضاربة بمقدورها إتلاف الأنسجة السليمة أيضا مع قضائها على العوامل الدخيلة على الجسم.
وإن حدث هذا في داخل الدماغ، فإنه سيكون مدمرا، لأن خلايا الدماغ لا تعيد إنتاج نفسها بالوتيرة نفسها لإنتاج خلايا الجسم الأخرى لنفسها.
وقد ساد لفترة طويلة التصور التقليدي بأن الدماغ يتمتع بالامتياز المناعي أو بـ«منزلة مناعية عالية»، أي إنه محمي من مختلف أشكال الهجمات الالتهابية.
إلا أن هذا الاعتقاد تعرض إلى التحدي على جبهتين: الجبهة الأولى هي ظهور اتفاق عام حاليا على أن «منزلة العقل المناعية العالية» ليست مطلقة، بل إنها نظام خاضع للتنظيم والضبط، وقد يتعرض أحيانا للخلل.
وأحد الأمثلة هنا هو وجود دلائل على تدهور الأعصاب في مرض التصلب المتعدد multiple sclerosis عندما يقوم جهاز المناعة بمهاجمة طبقات مادة «مايلين» myelin التي توجد حوالي امتدادات أطراف الأعصاب.
أما الجبهة الثانية، فهي تراكم نتائج الأبحاث المتتالية التي تفترض أن جهاز المناعة قد يعزز صحة الدماغ بالعديد من الوسائل. فقد وجدت إحدى الدراسات على الفئران مثلا أن عملية «complement cascade» (تعاقب تنشيط البروتينات الموجهة لتدمير الخلايا الدخيلة) وهو الوسيلة الكيميائية - البيولوجية التي تساعد على إخراج المواد الدخيلة المسببة للأمراض من الجسم، بمقدوره أيضا تشذيب، أو قص، التشابك العصبي synapses في الدماغ.
كما وجدت أبحاث أخرى أن واحدا من إنزيمات جهاز المناعة وهو «إندوليامين 2.3 ـ ديوكيجينيس (آي دي او) indoleamine 2.3 ـ dioxygenase (IDO)، يؤثر على مستويات مادة «تريبتوفان» tryptophan، وهو حامض أميني يعتبر سلفا، أي مقدمة، لظهور الناقل العصبي «سيروتونين» serotonin في الدماغ.
وقد أدت هذه الدراسات المعمقة لدور جهاز المناعة في صحة الدماغ، إلى تجديد الاهتمام بكيفية تأثير عملية تنشيطه، أي جهاز المناعة، ردا على حدوث عدوى أو ردا على التوتر المزمن، على احتمال حدوث اضطرابات في عمل الدماغ.
الالتهابات وحدوث الكآبة
لقد تركزت غالبية الأبحاث على بروتينات جهاز المناعة المعروفة باسم «سيتوكين» cytokines التي تنشط، ثم تشرف، على الهجمات الالتهابية الموجهة ضد الفيروسات أو البكتيريا الدخيلة.
وهذه البروتينات هي المحرض الرئيسي لما يصفه الباحثون بـ«السلوك المرَضي» sickness behavior ـ وهو حالة تتميز بفقدان الشهية واضطراب النوم والاكتئاب.
وهذا «السلوك المرضي» يساعد على الشفاء، لأنه يشجع الإنسان على إبطاء إيقاع حياته، ما يسمح لجهاز المناعة بمحاربة العوامل المسببة للمرض.
ولوجود تشابه بين «السلوك المرَضي» وبين أعراض الكآبة، فإن بعض الباحثين يعتقدون أن بروتينات «سيتوكين» أو عناصر أخرى في جهاز المناعة، ربما تحفز كذلك على ظهور بعض حالات اضطراب المزاج هذا، على الأقل.
الأدلة
أن الصلة بين تنشيط جهاز المناعة وبين ظهور حالات المزاج المكتئب، تساعد في تفسير الكثير من ملاحظات الدراسات التي أفادت بأن الكآبة أكثر شيوعا لدى المصابين بمرض السكري من النوع الثاني، أو التهاب المفاصل الروماتويدي، أو أمراض الشرايين التاجية - وهي أمراض ترتبط كلها بوجود التهابات مزمنة - مقارنة بظهورها لدى أشخاص من عموم السكان.
كما أنها تفسر أيضا لماذا تحصل حالات الكآبة لدى 30 إلى 50 في المائة من المصابين بالسرطان والتهاب الكبد الوبائي «سي»، عند إعطائهم «انتيرفيرون ألفا» وهو «سيتوكين» مركب صناعيا يوظف لتعزيز جهاز المناعة لديهم، وذلك حسب مقدار جرعته.
وبالطبع، فإن دراسات الملاحظة مثل هذه، لم توثق سوى الصلة بين «سيتوكين» وبين الكآبة، أي إنها لم تتناول السبب والنتيجة.
إلا أن دراسة مراجعة نشرت عام 2006 حللت نتائج من 17 دراسة، أفادت بوجود ارتفاع في مستويات مختلف أنواع «سيتوكين» أو المؤشرات الأخرى الخاصة بالالتهاب، في الدم أو في سائل النخاع الشوكي، للمرضى المصابين بحالات الكآبة الشديدة، الذين كانوا أصحاء عموما.
وفي «دراسة لايدن 85 ـ بلاس» Leiden 85 ـ plus Study الأحدث، وهي دراسة مستقبلية على المدى الطويل في هولندا، تم قياس مستويات ستة مؤشرات بيولوجية للالتهابات، في الدم، لدى 267 من المشاركين عند بدء الدراسة في سن 85 سنة.
ثم، وبعد 5 سنوات، وجد الباحثون أن ارتفاع مستويات ثلاثة من مؤشرات الالتهابات في الدم، وهي بروتين «سي ـ رياكتيف» C ـ reactive protein (CRP)، ونوعين من بروتينات «سيتوكين»، قد كانت مقدمة لظهور حالات الكآبة لدى أشخاص كانوا يتمتعون بمزاج جيد عند بداية الدراسة.
آليات محتملة
إن بروتينات «سيتوكين» والجزيئات الأخرى التابعة لجهاز المناعة، ربما تسهم في حدوث الكآبة بعدة طرق.
وعلى سبيل المثال فإن بروتينات «سيتوكين» تؤثر على عمليات تركيب، وإفراز، واسترجاع الدوبامين والسيروتونين، والنواقل العصبية الأخرى.
وهي تحفز على إفراز هرمونات تتداخل مع محور الغدة الكظرية - الغدة النخامية ـ ما تحت السرير البصري hypothalamic - pituitary - adrenal axis وهو ما يؤكد وجود استجابات للتوتر.
كما أنها تؤثر أيضا على قدرة الدماغ على تغذية ودعم الخلايا العصبية، وكذلك الوصلات العصبية بين الخلايا التي تؤهل الدماغ للتعلم والذاكرة.
تصورات العلاج
لا يشعر سوى واحد من كل ثلاثة مصابين بالكآبة بتحسن جزئي في أعراض حالته، بعد تناوله الأدوية الموصوفة.
ولذا يعتقد الباحثون الآن أن فهم الدور الذي تلعبه الالتهابات ربما سيساعد في تحسين العلاج.
وتفترض الأبحاث الأولية أن المرضى الذين توجد لديهم مستويات عالية من الخلايا الالتهابية، في الدم، يكونون أقل استجابة للأدوية المضادة للاكتئاب مقارنة بالآخرين.
وعلى المنوال نفسه، فإن عددا من الدراسات السابقة تفترض أن بعض الأدوية المضادة للالتهابات ربما تساعد في علاج الكآبة.
وعلى سبيل المثال، فقد وجدت دراستان صغيرتان أن توليفة من دواء مضاد للاكتئاب مع عقار مضاد للالتهاب، تحسن المزاج لدى المصابين بكآبة شديدة مقارنة بوصف دواء مضاد الكآبة لوحده.
إلا أن من الضروري إجراء دراسات موسعة ومحكمة، قبل أن يتمكن الأطباء من وضع التوصيات اللازمة.
الالتهاب وانفصام الشخصية
ظل الباحثون، وعلى مر السنين، يربطون بين كثير من عوامل العدوى وزيادة مخاطر ظهور مرض انفصام الشخصية (الشيزوفرينيا)، وعدد من الأمراض العقلية الأخرى. إلا أنه لم يكن من الواضح قط، أي هي العوامل هو الأكثر أهمية من غيره، والكيفية التي تتسبب بها في حدوث مرض انفصام الشخصية أو ظهور أعراضه.
وقد أظهرت مراجعة لخمس دراسات، مثلا، أن الأشخاص الذين تم تشخيصهم حديثا بمرض انفصام الشخصية، وجد لديهم عدد أكثر، مقارنة بغيرهم، من الأجسام المضادة للفيروس المضخم للخلايا Cytomegalovirus الذي ينتشر عبر حليب الرضاعة، واللعاب، أو سوائل الجسم الأخرى.
كما أن العديد من التقارير قد أشارت إلى دور فيروس الإنفلونزا في ذلك! وفي هذه الأثناء، فإن مراجعة لـ23 دراسة وجدت أن المصابين بانفصام الشخصية كانوا أكثر بثلاث مرات إصابة بنوع من الطفيليات يسمى «المقوس القوندي» Toxoplasma gondii، وهو طفيلي ينتقل عبر براز القطط، أو التربة أو الماء الملوثين.
وحديثا، دقق باحثون في معهد «والتر ريد» التابع للجيش الأميركي في عينات من الدم جمعت من جنود قبل وبعد إصابتهم بانفصام الشخصية، وقارنوها بعينات دم أخذت من جنود آخرين في مجموعة مراقبة.
وعلى الرغم من أن الباحثين حاولوا رصد دلائل على وجود تسعة أنواع من العدوى، فإن رصد طفيلي «المقوس القوندي» وحده قبل التشخيص، أظهر أنه زاد من فرصة ظهور انفصام الشخصية.
مسببات المرض
ولأن أنواعا عديدة تسهم في التسبب في انفصام الشخصية، فقد لجأ العلماء إلى محاولة لرصد عملية التمرض التي يمكنها أن تحدث نتيجة استجابة الجسم للعدوى. وكما هي الحال بالنسبة للكآبة، فإن الاهتمام تركز حول دور الالتهابات.
وتفترض جملة من الدلائل أن تعرض الأم أثناء الحمل إلى العدوى، قد ينشط بروتينات «سيتوكين» أو عناصر التهابية أخرى، سواء داخل جسم الجنين أو الأم.
ويؤدي رد الفعل المناعي قصير الأمد أو «الحاد» هذا إلى نتائج بعيدة المدى تؤثر على عقل الجنين، الذي ينمو بنشاط. وعلى الرغم من أن آلية حدوث هذا الضرر لا تزال غير معروفة، فإن إحدى النظريات تقول إن الالتهابات الحادة تتسبب في حدوث تغيرات غير طبيعية في عملية موت الخلايا المبرمج apoptosis، وهي العملية التي تقود إلى إزالة بعض الخلايا غير الضرورية، لكي يصبح الدماغ أكثر نشاطا.
وقد تقود تلك التغيرات إلى ظهور التفكير غير الطبيعي الذي يصاحب الإصابة بمرض انفصام الشخصية.
كما تشير جملة من الدلائل المنفصلة الأخرى إلى دور الالتهابات المزمنة التي تحدث مع تقدم العمر، وذلك استنادا إلى دراسات وجدت أن المصابين بانفصام الشخصية توجد لديهم مستويات أعلى من المواد الكيميائية الالتهابية، مقارنة بالآخرين.
ويكمن الاعتقاد هنا في أن الالتهابات المزمنة قد تسهم في حدوث أعراض انفصام الشخصية - خاصة حدوث صعوبات في التفكير تظهر مع تطور المرض - في واحدة من طريقتين.
- الأولى: أن الالتهابات تقود إلى حدوث عدم انتظام في تدفق الدم («الاختلال الوعائي» vascular dysregulation)، بحيث لا يتزود الدماغ بحاجته من الأكسجين والعناصر المغذية.
- أما النظرية القوية الثانية: فهي أن الالتهابات تتسبب في حدوث مقاومة للأنسولين، ومشكلات أخرى في التمثيل الغذائي (الأيض)، بحيث لن يكون الدماغ قادرا على تمثيل سكر الدم غذائيا والحصول على الطاقة.
ومع هذا، فإن الدراسات حول تأثير الالتهابات المزمنة مع تقدم العمر كانت متنافرة، إذ لم تجد بعضها اختلافات بين مؤشرات الالتهاب لدى مجموعتين مقارنتين من المرضى وغير المرضى.
وهذا قد يعكس الخواص المتغايرة لمرض انفصام الشخصية. أضف إلى ذلك أن الخلايا والبروتينات الالتهابية قد تنشط أثناء حدوث التوتر العقلي، ولذا، فإن من المحتمل أن تكون زيادة مستويات المؤشرات البيولوجية للالتهابات هي نتيجة لمرض انفصام الشخصية بدلا عن تكون سببا لها.
كما أن من الممكن أن يكون بعض الأفراد مهددين أكثر من غيرهم بالأضرار الناجمة عن الالتهابات. وقد وجدت دراسة جينية كبيرة لدى المصابين بانفصام الشخصية تغيرات في منطقة «الكروموسوم 6» الذي يحتوي على جينات مهمة تؤثر على وظائف جهاز المناعة الطبيعية.
نتائج علاجية
على الرغم من عدم وضوح مساهمة الالتهابات في حدوث أعراض انفصام الشخصية، فإن هناك دلائل على أن الالتهابات قد تؤثر على الاستجابة للعلاج. وقد افترضت دراسات أولية على مصابين بانفصام الشخصية أن مؤشرات الالتهابات مرتفعة المستوى يمكنها التنبؤ بحدوث استجابات سيئة للأدوية العلاجية، كما أنها تتنبأ بحدوث أعراض شديدة.
ومثلا، وجدت دراسة على 79 مصابا بانفصام الشخصية أن الذين رصد لديهم مستوى عال من مؤشر الالتهابات «إنترلوكين - 2» 2) - (IL في سائل النخاع الشوكي، كانوا سيتعرضون أكثر من غيرهم من المصابين إلى ازدياد حدة أعراضهم العقلية لدى توقفهم مؤقتا عن العلاج بعقار «هالوبيريدول» haloperidol («هالدول» Haldol).
كما تابعت دراسة أخرى حالات 78 مصابا بانفصام الشخصية عولجوا بدواء «ريسبيريدون» risperidone («ريسبيردال» (Risperdal، أو «هالوبيريدول» لمدة 12 أسبوعا.
وظهر أن حالات المرضى الذين كانت مستويات 2) - (IL لديهم اقل، تتحسن في الغالب مع تناول الأدوية، مقارنة بالمرضى الآخرين الذين كانت لديهم مستويات 2) - (IL أعلى.
وفي دراسة أخرى وجد الباحثون أن المرضى الذين لديهم مستويات من «بروتين سي رياكتيف» CRP أعلى من النطاق الطبيعي له، كانت لديهم أعراض مرضية عقلية أسوأ من الذين كانت مستويات هذا البروتين طبيعية لديهم.
ولأن الكثير من هذه الدلائل تفترض نوعا من المساهمة أو الدور الذي تقوم به الالتهابات في حدوث انفصام الشخصية، فإن عددا من فرق البحث تحاول الآن استكشاف ما إذا كان بالإمكان تحسين الاستجابة للعلاج بإضافة شتى أنواع أدوية مضادات الالتهاب إلى العقاقير المستخدمة في علاج الأمراض العقلية.
وحتى الآن فإن نتائج الدراسات الأولية لا تزال مختلطة، إلا أن الأبحاث متواصلة.
اضطرابات عقلية أخرى
بعد ازدياد الدلائل على دور العدوى ودور الاستجابة المناعية، في ظهور الكآبة وانفصام الشخصية، أخذ العلماء في البحث أيضا عن الصلة المحتملة بينها وبين ظهور اضطرابات عقلية أخرى، ومنها اضطرابات طيف التوحد، ومرض «ثنائي القطب» bipolar disorder.
وعلى الرغم من أننا لا نزال بحاجة إلى أدلة موثوق بها، فإن مسألة مساهمة الميكروبات في حدوث الأمراض العقلية تظل مسألة مثيرة تستفز العقول، كما كانت قبل قرن مضى من الزمن.
نقاط جوهرية
- تفترض الأبحاث أن جهاز المناعة يعزز صحة الدماغ بعدة أوجه.
- تنشيط خلايا معينة في جهاز المناعة استجابة منه، أي ردا، للعدوى، أو لحالة مزمنة (من الالتهابات)، ربما يسهم في حدوث أمراض عقلية بعدة طرق.
- الدراسات جارية لتقييم استخدام مضادات الالتهاب، لعلاج الكآبة وانفصام الشخصية