النوم .. يخفض معدلات استهلاك الجسم للطاقة إلى حد البقاء حيا
يلعب النوم دورا بالغ الأهمية في حياة الإنسان، حيث يقوم الجسم عموما، والمخ على وجه الخصوص، بما يمكن أن نسميه بعملية «إعادة ترتيب الأوراق» في أثناء تلك الهدنة اليومية المؤقتة، التي تعتبر بمثابة فترة الراحة من عناء الجهد المتواصل نتيجة الاستيقاظ طوال النهار.
وتحتاج معظم اللبائن (الثدييات) إلى فترات من النوم، ليقوم الجسم أثناء تلك الساعات بوضع نفسه في حالة الحد الأدنى من النشاط الممكن للبقاء حيا، حيث تقوم الأجهزة المختلفة بتخفيض معدلات العمل المنوط بها على مدار اليوم، وبالتالي تقلل من كمية استهلاكها للطاقة، وهو ما نحتته التكنولوجيا الحديثة في تعبير «وضع النوم» (Sleep mode) المستخدم في معظم الأجهزة الحديثة، مثل الكومبيوترات وغيرها، للدلالة على وضعية يكون فيها الجهاز في أدنى معدل ممكن لاستهلاك الطاقة، بيد أنه مستعد لـ«الاستيقاظ» الفوري ومتابعة نشاطه عند الحاجة.
لا تنحصر أهمية النوم في إعطاء راحة إجبارية لأجهزة الجسم المختلفة فقط، وإنما هي الفترة المناسبة أيضا لنمو الخلايا المختلفة، سواء كان ذلك في مرحلة النمو الجسدي العام في مرحلتي الطفولة والبلوغ، أو كان ذلك لاستبدال خلايا جديدة في حياتنا اليومية العادية بالخلايا التالفة أو المستهلكة.
ويختلف النوم عن الغيبوبة في كون العودة إلى الحالة الطبيعية (الاستيقاظ) تكون أكثر سهولة وسلاسة في الأول عن الثاني، وأن رد الفعل تجاه المؤثرات والعوامل الخارجية يغيب في الثاني أكثر من الأول.
دورات النوم
النوم الطبيعي عبارة عن دورات متكررة تتراوح مدتها بين 90 و110 دقائق في المتوسط، وتنقسم كل دورة منها إلى شقين رئيسيين: مرحلة حركة العين غير السريعة ومرحلة حركة العين السريعة، ويكون النوم سطحيا في معظم الأولى بينما يكون عميقا في الثانية.
وتكثر نسبة مرحلة حركة العين السريعة في الساعات الأخيرة من النوم، قرب الفجر وقبيل الاستيقاظ، وهي المرحلة التي يصاحبها غالبا حدوث الأحلام المرتبة، التي يسهل تذكرها عند الاستيقاظ.
وتتحكم في دورات النوم ساعة بيولوجية، لم يعرف العلم مكانها على وجه التحديد وإن كان من المرجح وجودها في الغدة الصنوبرية، أو أن هذه الغدة مسؤولة بشكل أو بآخر عن تنظيم النوم.
واختلفت المراجع الطبية في تحديد عدد ساعات النوم الطبيعي للإنسان، وإن أشارت في معظمها إلى أن عدد الساعات يتفاوت تبعا للسن ولطبيعة عمل الشخص، إضافة إلى أن النوم يجب أن يكون متماشيا مع دورة الساعة البيولوجية والفسيولوجية وإلا كان غير ذي جدوى كبيرة حتى وإن طالت ساعاته.
وإجمالا يجب ألا تقل ساعات النوم في الإنسان عن 6 ساعات ويفضل ألا تزيد على 8 ساعات في البالغين، في حين أن 18 ساعة من النوم في حديثي الولادة هو أمر طبيعي، وتقل تدريجيا إلى أن تصل للمعدل السابق بعد البلوغ.
والملاحظة الغريبة أن عدد ساعات النوم يتناسب عكسيا في أغلب الأحوال مع حجم الكائن الحي، فالفئران على سبيل المثال تحتاج في المتوسط إلى 14 ساعة من النوم، في حين أن الفيل تكفيه 3 ساعات من الراحة.
ويشير علماء الأحياء إلى أن ذلك يعتمد بالأساس على معدل الأيض (بذل الطاقة) لدى الحيوان، فكلما ارتفع هذا المعدل - كالحال في الفئران - زادت ساعات النوم، والعكس صحيح.
الحرمان من النوم
ويؤكد كثير من العلماء، مثل البروفسور ديفيد دينغز، أستاذ علم النفس بجامعة بنسلفانيا، على اقتناعهم التام بمفهوم «ديون النوم» (Sleep dept)، وهو ما يعني أن الحرمان من النوم، أو تقليص الساعات اليومية التي تكفي الجسم للراحة، هو في النهاية دين يتراكم على الإنسان ويجب سداده ولو بعد حين، وأشار دينغز في بحث نشره بدورية النوم عام 2004 إلى أن تراكم مثل هذه الديون يؤدي حتما إلى اعتلال الصحة البدنية العامة، والصحة النفسية على وجه الخصوص، وقد يفضي إلى الموت أو الاختلال النفسي.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أهمية النوم في الأطفال، كونه يعتبر مرحلة مهمة لاختزان الخبرات والتطور العقلي.
وبحسب ما أوضح البروفسوران ريتشارد بوتزين ولين نادال، أستاذا العلوم السلوكية والنفسية بجامعة أريزونا، في بحث قدماه أمام الجمعية الأميركية للتطور العلمي أواخر فبراير (شباط) الماضي، فإن فترات نوم الأطفال تسهم في إدماج المعلومات التي تحصلوا عليها أثناء الاستيقاظ في منظومة الذاكرة الخاصة بهم، لتصبح هذه الخبرات المكتسبة بمثابة مرجع ثابت يعود إليه العقل في حال التعرض لمواقف مشابهة، وأنه لولا ساعات النوم التي يحصل عليها الأطفال لما تكونت لديهم ذاكرة قوية تساعدهم مستقبلا.
اضطرابات النوم
من جهة أخرى، أشارت دورية مجتمع كبار السن الأميركية في عددها الصادر منتصف مايو (أيار) إلى أن دراسة بحثية قامت بها الدكتورة جينيفر مارتن، من قسم الطب الباطني بجامعة كاليفورنيا، أفادت بأن نحو 65% من كبار السن الذين يعيشون في دور رعاية المسنين يعانون من اضطرابات ملحوظة بالنوم، وشملت هذه الاضطرابات مشكلات الاستيقاظ المتكرر أثناء الليل أو الصباح المبكر، وأيضا عسر الدخول إلى النوم خلال 30 دقيقة (الأرق).
وتعزو مارتن تلك الأعراض إلى موجات من الاكتئاب التي تنتاب هؤلاء البشر في دور الرعاية، وافتقارهم في معظم الأحوال إلى السند الاجتماعي والعون النفسي، وهو ما يترسب في زيادة معدلات القلق والتوتر العصبي لدى هذه الفئة من الأشخاص.
في حين أشار بحث آخر نشرته دورية طب النوم الإكلينيكي «Journal of Clinical Sleep Medicine» منتصف أبريل (نيسان) الماضي إلى أن اضطرابات النوم لدى البالغين، التي تؤثر على صحتهم العامة، قد تعتمد في شدتها على أسس عرقية، إذ أوضحت كارول بالدوين، مديرة مركز دعم الصحة العالمية ومكافحة المرض بكلية التمريض جامعة أريزونا، أن ذوي الأصول الأفرو - أميركية الذين يعانون من الغطيط (الشخير) أثناء النوم هم أكثر عرضة من ذوي الأصول القوقازية لحدوث نوبات الأرق والنعاس أثناء اليوم، كما أنهم أكثر عرضة لظهور الآثار العضوية المترتبة عن سوء النوم من أصحاب الأصول اللاتينية.
وقامت بالدوين بإعادة تحليل بيانات صحية من مركز دراسة الأمراض القلبية المرتبطة بالنوم، والخاصة بما يفوق خمسة آلاف مريض، لتثبت أن هناك ارتباطا بين شدة الأعراض المرضية الناجمة عن اضطرابات النوم، سواء على المستوى النفسي أو البدني، والأصول العرقية.
مشكلات النعاس
تشير الدراسات إلى أن اضطرابات النوم تزيد من معدلات الحوادث عامة، كما أنها تزيد من معدلات ارتكاب الجرائم، نظرا لما تسببه من اضطراب على المستوى النفسي.
ومن ضمن ما يؤكد ذلك ما نشرته دورية طب النوم الإكلينيكي في عدد فبراير الماضي، حيث أفادت دراسة قام بها البروفسور فابيو سيريغنوتا، أستاذ علم الأعصاب بجامعة بولونيا الإيطالية، بأن نسبة حوادث السيارات تتزايد بين السائقين عامة، والمراهقين على وجه الخصوص، عند التعرض لنوبات النوم أثناء القيادة، وهو ما يعد إحدى تبعات اضطرابات النوم المألوفة.
وحذر سيريغنوتا من مغبة التهاون في مواجهة هذه الظاهرة العالمية، وعدم الاكتفاء بمحاولة التغلب على النعاس بالطرق المعتادة للسائقين مثل فتح النافذة أو الاستماع إلى الراديو أو تناول كوب من القهوة، منبها إلى أن الحل الفوري الوحيد لتقليص الحوادث المرورية في هذه الحالات هو التوقف توا عن القيادة والاستمتاع بجرعة قصيرة من النوم لمدة 10 إلى 15 دقيقة قبل معاودة السير مجددا.
وعلى عكس ما تشير إليه كثير من المراجع الطبية من أن الإحالة على المعاش (التقاعد) قد تؤثر سلبا على الحالة النفسية الخاصة بالأشخاص كبار السن، من حيث تزايد شعورهم بعدم حاجة المجتمع إليهم وأنهم أصبحوا عالة على أكتاف غيرهم، نشرت دورية النوم بحثا فنلنديا أواخر العام الماضي يقول عكس ذلك، حيث يقول البروفسور يوسي فاتيرا، أستاذ طب المجتمع بجامعة توركو الفنلندية، إن زوال ضغوط العمل في الأشخاص المحالين إلى المعاش قد أسهم بصورة كبيرة في تحسين دورات النوم لديهم.
وأجرى فاتيرا دراسته على البيانات الصحية لنحو 15 ألف شخص ممن أحيلوا إلى التقاعد في الفترة ما بين عام 1990 و2006، وتراوحت أعمارهم ما بين 55 و60 عاما، وسبق لهم أن تعرضوا مسبقا لنوبات من اضطرابات النوم.
وأشارت النتائج إلى تحسن الحالة المزاجية لدى المتقاعدين، وإن أوضح فاتيرا أن ذلك ربما يعود إلى القوانين الخاصة بالتقاعد في بلده، والتي تنص على حصول المتقاعد على ما يوازي 80% من راتبه السابق عند الإحالة إلى المعاش، وهو الأمر الذي قد يكون مطمئنا لهؤلاء الأشخاص على مستوى الإحساس بالأمان المادي، على عكس الدول الأخرى التي لا تمتاز بتلك القوانين.