ولأقصر ابن سينا نصحه بالغناء والموسيقى
(وقد كان القدامى يسمون هذا السماع) على
المصابين بآفات عقلية أو نفسية. وإنما
يوصي بهما أيضاً في تسكين الأوجاع. إذ هما
يساعدان على النوم: "من مسكنات الأوجاع
المشي الدقيق، الطويل الزمان لما فيه من
الإرخاء… والغناء الطيب خصوصاً إذا نوم به،
والتشاغل بما يفرح، مسكن قوي للوجع"
.
[19]
كما يدرج الموسيقى والغناء في عداد
الأدوية التي يعالج بها الحميات. يقول
مثلاً، في باب "حميات اليوم (أي العرضية)،
في علاج الحمى الغضبة: "المعالجات هو
تسكينهم (المصابين بها) وشغلهم بالمفرجات
من الحكايات والسماع الطيب، واللعب،
والمناظر العجيبة…"
[20]
وجدير بنا أن نستذكر أن الرازي مصنفاً في
الموسيقى ذكره ابن أبي أصيبعة:
[21]"
كتاب في جمل الموسيقى". ولابن سينا أيضاً
غير تأليف في الموسيقى.
ولم يغب عنه هذا الحس وهو يرى أن في النبض
طبيعة موسيقية، وأنه ذو نسبة إيقاعية في
السرعة والتواتر
[22]. فهو الذي
حدد لكل وقت من أوقات الليل والنهار نغمته
الخاصة به.
ويورد "فارمز" أن مما بلغ الحضارة
الأوربية، ترجمة ، قدرة الموسيقى على
الشفاء وهو ما أتثبته ابن سينا بمقالته
التي كادت تذهب مثلا في اللغة اللاتينية .
“ Inter Omni excercitia Sanitatis
cantare Melius est “
أي : خير تمارين العافية الغناء. وهذا
قريب من قول "إخوان الصفا" : "أمزجة
الأبدان كثيرة الفنون، وطباع الحيوانات
كثيرة الأنواع، ولكل مزاج، ولكل طبيعة،
نغمة تشاكلها، ولحن يلائمها".
[23]
وقبل هؤلاء جميعاً، قسم
"
الكندي"
[24]الألحان
أقساماً في "كتاب المصوتات الوترية من ذات
الوتر الواحد إلى ذات العشرة الأوتار"
[25] ("المقالة
الثانية": في تأليف اللحون"). وقال: إن
منها مايكون للطرب، أو إثارة الحماسة، أو
يكون
"
للبكاء والحزن والنوح والرقاد ويسمى
الشجوي"
[26].
ويتناول النغمات والأوتار والإيقاعات،
فيورد تأثيرها على أعضاء الجسم:
فحركات الزير، مثلاً، تورث "أفعال النفس:
الفرحية ، والعزية ، الغلبية ، "وقساوة
القلب والجرأة والإقدام والزهو والنخوة
والتجبر والتكبر ، وهو مناسب لطبع
الماخوري. ويحصل من فعل هذا الوتر (وهذا)
الإيقاع: أن يكونا مقويين للمرة الصفراء
محركين لها، مع اجتماع الزمان الشتوي
والنومي، وسن الموسيقا أي وطباعه، وإذا
قوي هذا الطبع والمزاج أذاب البلغم وقطعه
ورققه واسخنه. ومما يلزم المثنى من تلك
الأفعال: السرورية والطربية والفرحية
والجودية والكرمية، والتعطف والرأفة
والرقة… ويحصل من قوة هذا الوتر وهذين
الإيقاعين: أن يكونا مقويين للدم وطباعه
ومحركاته ولطافته وسجياته، ويكسران عادية
السوداء ويقمعانها ويمنعان أفعالها.
ومما يلزم المثلث من تلك الأفعال: الجنية
والمراسي والحزن ومايشجي، وذكر الغابر،
وأشباه التضرع… ويحصل من هذا الوتر وهذا
الإيقاع: أن يكونا محركين للبلغم مطلقين
له زائدين في اعتداله – إن كان معتدلاً -
أو معدلين له مسكنين للصفراء مانعين
لتسليطها، مطفيين لحدتها.
ومما يلزم ألم من تلك الأفعال: الفرحية
تارة، السرورية تارة والتحبب والزهو…
ويحصل من هذا الوتر وهذه الإيقاعات: أن
تكون مقوية للسوداء زائدة في حركاتها
مطفية للدم، ولها من الأغاني: النوح
والشكوى وذكر حنين الإلف والطير والإبل،
وبكاء الرسوم والآثار والدمن…
ومن طبع البم الحلم والزكانة والرصانة،
ومن طباعه أيضاً السرور تارة، والحلم
تارة، مع الأفكار الرديئة والكمد وانقطاع
الطبع وانخذال النفس"
[27].
ثم يقول:
"وقد يلزم حركات النفس وانتقالها من حال
إلى حال بخواص حركات الأوتار على حسب
ماقدمناه من طبعها أو مناسباتها – مايكون
ظاهراً للحس، منطبعاً في النفس. فمما يظهر
بحركات الزير في أفعال النفس: الأفعال
الفرحية والعزية والغلبية، وقساوة القلب
والجرأة وما أشبهها، وهو مناسب لطبع
الماخوري وماشاكله. ويحصل من قوة هذا
الوتر وهذا الإيقاع: أن يكونا مقويين
للمرار الأصفر محركين له، مسكنين للبلغم
مطفيين له.
ومما يلزم المثنى من ذلك الأفعال السرورية
والطربية والجودية والكرمية والتعطف
والرقة ما أشبه ذلك… ويحصل من قوة هذا
الوتر وهذين الإيقاعين أن تكون: مقوية
للدم محركة له، مسكنة للسوداء مطفية لها.
ومما يلزم المثلث من ذلك: الأفعال الجنية
والمراثي والحزن وأنواع البكاء وأشكال
التضرع وما أشبه ذلك ، وهو مناسب للثقيل
الممتد. ويحصل من هذا الوتر وهذا الإيقاع
أن يكونا: مقويين للبلغم محركين له،
مسكنين للصفراء مطفيين لها.
ومما يلزم البم من ذلك: الأفعال السرورية،
تارة والترحية تارة، والحنين والمحبة وما
أشبه ذلك. وهو مناسب للأفراح والأرمال
والخفيف وماأشبه ذلك ويحصل من هذا الوتر
وهذه الإيقاعات أن تكون : مقوية للسوداء
محركة لها، مسكنة للدم مطفية له…"
[28].
ويقول طاش كبري زاده (968 هـ / 1561) في
"علم الموسيقى"
[29]:
"… ولذلك يستعملون النغم تارة في الأفراح
والحروب، وعلاج المرضى، وتارة في المآتم
وبيوت العبادة".
فليس بغريب إذاً ، أن ملكاً (الحافظ
العبيدي)
[30] استنبط له
طبيبه طبلاً، ذا نغمات خاصة تبرىء وتشفي
[31].
وعند ابن جزلة(493 هـ/1100 م) في كتابه: "
تقويم الأبدان" أن "الموسيقى من الأدوات
النافعة في حفظ الصحة وردها؛ وتختلف بحسب
اختلاف طباع الأمم
"
.
وقديماً وضعت هذه الصناعة لحث النفوس إلى
السنن الصحيحة؛ ثم استعملها الأطباء في
شفاء الأبدان المريضة. فموقع الألحان من
النفوس موقع الأدوية في الأبدان المريضة.
وأفعاله في النفس ظاهرة من مشي الجمال عند
الحداء ، وشرب الخيل عند الصفير، ومرح
الأطفال لسماع الغناء. وهو يحدث أريحية
ولذة، ويعين على طول الصلاة والدراسة.
والأطباء يستعملونه في تخفيف الآلام، على
مثال مايستعمله الجمالون لتخفيف الأثقال"
[32].
ولايشذ ابن النفيس (687هـ / 1288 م) عن
زملائه. ففي مخطوطة
[33]"كتاب الموجز
في الطب"، يقول في الفصل الثالث: "في
الأمراض المختصة بعضو عضو" (أي عضواً):
"العشق وهو يعتري العزاب والبطالين
والرعاع… ويعرف معشوقه بوضع اليد على نبضه
وذكر أسماء وصفات. فأيها اختلف عنده
النبض، وتغير لون الوجه، يعرف أنه هو.
والعلاج… من المسليات: الصيد والاشتغال
بالعلوم العقلية والمحاكمات
[34]… واللعب،
والسماعات المقصود بها اللعب كالتي
بالخيال وأما التي يذكر فيها الهجر
والنوى، فكثيراً مايهلك عشقاً
"
ويجمع داود الإنطاكي (1008هـ/1600 م) في
“
تذكرته”
تفاريق أقوال الأطباء في هذا المجال.
يورد، مثلاً، في كلامه على الهمك ".. ومما
يعين على ذلك (سلو الهم…) النظر في الحساب
والتصاوير والهندسة، وإن ضاق نطاق التفكير
عن ذلك، فسماع الأصوات، والآلات الحسنة،
إذ لاعلاج لمن استغرق غيرهما… فهذا تلخيص
التقطناه من مفرق كرمهم إذ لم نظفر بمن
جمع هذا الباب"
[35].
وكذلك أشار الأنطاكي إلى استخدام الموسيقى
في علاج الجنون والحميات الحارة ،
[36]وفي الاختلاج
والارتعاش. ويعين هنا نغمةً خاصة على
العود (المنشاري)
[37].
وهذا يذكر بما نسبوه إلى الكندي. فقد روى
القفطي أنه كان في جوار هذا الطبيب
الفيلسوف " رجل من كبار التجار، موسع عليه
في تجارته. وكان له ابن قد كفاه أمر بيعه
وشرائه، وضبط دخله وخرجه، وكان ذلك التاجر
كثير الإزراء على الكندي، والطعن عليه،
مدمناً لتفكيره والإغراء به. فعرض لابنه
سكتة فجأة ، فورد عليه من ذلك ماأذهله،
فلم يدع بمدينة السلام طبيباً إلا ركب
إليه واستركبه لينظر ابنه، ويشير عليه من
أمره بعلاج. فلم يجبه كثير من الأطباء ؛
لكبر العلة وخطرها إلى الحضور معه.
ومن أجابه منهم فلم يجد عنده كبير غناء.
فقيل له: أنت في جوار فيلسوف زمانه، وأعلم
الناس بعلاج هذه العلة، فلو قصدته لوجدت
عنده ماتحب. فدعته الضرورة إلى أن تحمل
على الكندي بأحد إخوانه ، فثقل عليه في
الحضور، فأجاب، وصار إلى منـزل التاجر،
فلما رأى ابنه وأخذ مجسه، أمر بأن يحضر
إليه من تلاميذه في علم الموسيقى من قد
أنعم الحذق بضرب العود وعرف الطرائق
المحزنة ، والمزعجة والمقوية للقلوب
والنفوس. فحضر إليه أربعة نفر، فأمرهم أن
يديموا الضرب عند رأسه، وأن يأخذوا في
طريقة أوقفهم عليها، وأراهم مواقع النغم
بها من أصابعهم على الرساتين
[38] ونقلها: فلم
يزالون يضربون في تلك الطريقة، والكندي
آخذ مجس الغلام، وهو في خلال ذلك يمتد
نفسه، ويقوى نبضه، ويراجع إليه نفسه شيئاً
بعد شيء، إلى أن تحرك، ثم جلس وتكلم،
وأولئك يضربون في تلك الطريقة دائماً
لايفترون فقال الكندي لأبيه:
سل ابنك عن علم ماتحتاج إلى علمه ، مما لك
وعليك وأثبته . فجعل الرجل يسأله، وهو
يخبره، ويكتب شيئاً بعد شيء. فلما أتى
جميع مايحتاج إليه غفل الضاربون عن تلك
الطريقة التي كانوا يضربونها، وفتروا ،
فعاد الصبي إلى الحال الأولى، وغشيه
السكات… [39]"
ومهما يكن من شأن الصنعة في هذه القصة ،
فالكندي قد أفاض القول، كما سقنا بالشواهد
من أقواله، في أثر الموسيقى من الوجهة
الطبية، وبين "أن الألحان تؤثر في الجسم
فتساعد على الهضم. وتبعث في الكيموسات
[40] التلطيف
والتنظيف" [41]
.
ولابد أن نذكر في سياق كلامنا على ابتداع
العرب طرائق في المعالجة النفسية
والعقلية أنهم كانوا سباقين إلى المداواة
بالوهم، وفي سير الأطباء التي حكاها ابن
أبي أصيبعة مشاهدات وأنباء كثيرة من هذا
القبيل.
فهو يورد، مثلاً، في سيرة أبي البركات هبة
الله بن علي بن ملكا البلدي، أثر الوهم في
شفاء بعض الأمراض؛ إذ يقول: "وهذا باب
عظيم في المداواة . وقد جرى أمثال ذلك
لجماعة من الأطباء المتقدمين في مداواتهم
بالأمور الوهمية. وقد ذكرت وكثيراً من ذلك
في غير هذا الباب"
[42].
ا
الرجوع إلى القائمة |